الثاني: أن هناك من الحاجات الإنسانية ما لا يدخل في حساب الدخل، فالدخل قد يزيد، لكن يزيد أيضًا معدلُ البطالة، والزيادة في الأسعار، فلا تدل زيادة الدخل على ارتفاع مستوى الرفاهية.
- مؤشر التنمية البشرية: لتجاوز عيوب ونقائص مؤشر الدخل الفردي؛ وضع برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ 1990 مؤشرًا جديدًا، هو مؤشر التنمية البشرية، ويمزج هذا المعيار بين ثلاثة عناصر:
1- متوسط الدخل، ويمثله الناتج الداخلي للفرد.
2- مستوى المعرفة، والذي تمثله نسبة الأمية عند البالغين، ومعدل مستوى الدراسة.
3- ومستوى الصحة، الذي يمثله متوسط أمد الحياة عند الولادة.
وهكذا رتبت بلاد العالم، بعضها فوق البعض، على مدى نجاحها أو فشلها في الارتفاع بمتوسط الدخل، وزيادة العمر المتوقع عند الميلاد، وفي محو الأمية، وزيادة نسبة المسجلين بالمدارس.
حاز هذا المعيار الجديد للتقدم والتخلف شهرةً كبيرة، ولكن هو الآخر تعتريه عيوبٌ ونقائصُ؛ لأنه لا يقيس إلا عددًا محدودًا من الحاجات الإنسانية تم اختيارها اعتباطًا، واستبعد أشياء لا تقل أهمية في التأثير على الرفاهية، والشعور بالكرامة الإنسانية، وسبق لنا ذكره؛ كالبطالة، ونمط العلاقات الاجتماعية، ومدى الشعور بالاستقرار والطمأنينة للمستقبل، والحريات السياسية والفردية، ومدى انتشار الجريمة بأنواعها، الناجمة إما عن أشكال الفقر المدقع، أو عن حب الشراهة والتخمة.
إن مثل هذه المحاولة لا بد أن تُحدث من التضليل أكثر مما تحدثه من التنوير، وقد تستخدم استخدامات خاطئة للإيحاء بأشياء بعيدة عن الحقيقة، ومهما قال أصحاب هذا المعيار والمدافعون عنه، مِن أنه لم يقصد به الإحاطة بكل جوانب التقدم الإنساني، ومهما قيل إن هناك مجالاً واسعًا لتحسينه، وزيادة حظِّه، والدقة فيه - فسيظل هذا المؤشر خطرًا من حيث إنه يمكن أن يستخدم لإخفاء أشياء مهمة، وتضخيم أشياء أقل أهمية.
- مقياس التنمية الإنسانية: وجاء به "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002"؛ ليزيد الطين بِلَّة، احتفظ التقرير بمؤشري العمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى التعليم، وأضاف إليهما أربعة مؤشرات جديدة، هي: الحرية، ومركز المرأة (أو ما أسماه: تمكين النوع)، ودرجة الاتصال بشبكة الإنترنت، ودرجة نظافة وتلوث البيئة، فأصبحت المؤشرات ستةً بعد أن كانت ثلاثة، ولكن المهم أن نلاحظ أنه استبعد تمامًا ذلك المؤشر القديم والمشهور، وهو متوسط الدخل.
نعم، كنا نعرف أن هذا المؤشر قاصر عن الإحاطة بكل جوانب الرفاهية، كما هو بالنسبة لبعض دول الخليج؛ كقطر مثلاً (متوسط الدخل الفردي 15140 دولار عام 1994)، ولكن علاج هذا القصور هو باستكمال النقص، فما معنى القول: إن الحرية هي الوسيلة الأساس لتمكين البشر؟ وما قيمة الحرية إذا لم تقترن بالحصول على الدخل؟!
[4].
على ضوء هذه المؤشرات المزيفة التي تحاول إيهام البلدان المتخلفة أنها على الدرب؛ وذلك بإقصاء مقاييس أكثر أهمية مثل التصنيع، خاصة وأن البلدان المتخلفة تركز على أنشطة صناعية، يمكن تسميتها هامشية، لا يمكن أن تشكل ثورة كوبرنيكية، وطفرة نوعية للحاق بالدول المتقدمة، على حد قول الشاعر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يُزْرِي بِهِ الفَتَى إِذَا قَالَ هَذَا السَّيْفُ أَمْضَى مِنَ العَصَا
|
وعلى أي حال، فإنه من الأفضل - على المستوى الاقتصادي - الإبقاء على تعبير "المتخلفة"، وليس النامية؛ فإن التعبير الأخير يخلق انطباعًا بأن كافة بلدان إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية تفلت من حالة تخلف اقتصادي، وتنضمُّ إلى أمم العالم الصناعية، وأنها تحرر ذاتها من علاقة الاستغلال؛ بل هناك بلدان "متخلفة" في إفريقيا تتحول إلى بلدان أكثر تخلفًا، بالمقارنة بالقوى العظمى في العالم.
إن الاقتصادياتِ المتقدمةَ تتسم بسمات معينة، تتناقض مع خصائص الاقتصاديات "المتخلفة"؛ فجميع البلدان المتقدمة بلاد صناعية، وتتميز هذه البلدان بإنتاجية مرتفعة للفرد في الصناعة؛ نظرًا للتكنولوجيا والمهارة المتطورتين، ولكن من المدهش أيضًا أن الزراعة في البلدان المتقدمة أكثر تقدمًا منها في بقية أنحاء العالم.
وقد تحولت الزراعة فيها إلى صناعية بالفعل، وإن بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تسمى زراعية؛ لأنها تعتمد على الزراعة، وليس لديها إلا قليل من الصناعة، لكن زراعتها غير علمية، وإنتاجيتها أقل من إنتاجية البلدان المتقدمة
[5].
لذا؛ فتناول إشكالية التنمية يتطلب إجراءَ عملية تحليل معمقة للفروض والمسلَّمات من ناحية، والنتائج والغايات من ناحية أخرى، وما بينهما من علاقات تربط المنطلقات بالغايات، وتجعلها متسقة أو منسجمة، بحيث لا تكون عملية النهوض حركة عشوائية، أو استجابة وقتية لمتطلبات واقعية، أو رد فعل لبيئة دولية أو إقليمية، وأن تكون عملية متواصلة في تحقيق تجلي الذات الإنسانية في مكانها الحضاري، وفي زمانها القادم.
2- المدارس الجغرافية الكبرى وإشكالية التخلف:منذ أن ظهر الإنسان على وجه البسيطة وهو يسعى جاهدًا لاستغلال موارد بيئته، أو بالأحرى إشباع حاجاته الأساسية في مرحلة، والكمالية في مرحلة تالية، والمتتبع لصيرورة هذه العلاقة الجدلية بين الإنسان وبيئته على المدى الزمني "التطور التاريخي"، وعلى المدى الأفقي: "اختلاف البيئات وتباينها من منطقة لأخرى" - يجد أنها علاقة ديناميكية متباينة، يحكمها بالدرجة الأولى طبيعةُ البيئة من جهة، وقدرات وإمكانات الإنسان من جهة أخرى.
وقد استحوذت محاولة تفسير هذه العلاقة على اهتمام الاقتصاديين والجغرافيين - خاصةً الغربيين - لمحاولة تبرير ظاهرة التخلف من منطلقات طبيعية وبشرية - ديموغرافية:
أ- المدرسة الحتمية (الجغرافية الطبيعية): ويطلق عليها المدرسة البيئية، وقد أرسى قواعدَها الألمانيُّ "فريدريك راتزل" في أواخر القرن 19، ويرى أن للبيئة أثرًا كبيرًا في حياة الإنسان، فهو يخضع لسلطانها، وتتحدد نظم حياته الاجتماعية والاقتصادية وَفْقَ ما تمليه عليه ظروفُها، وكان من أنصار هذه المدرسة خارج ألمانيا "دومولين" في فرنسا، الذي يرى أن البيئة الجغرافية هي التي تشكل المجتمع، وأن اختلاف البيئات كان السببَ في اختلاف الأنماط الاجتماعية والاقتصادية، وذهب في تطرُّفه حدًّا بعيدًا، أنكر فيه على الإنسان ما أوتي من عقلٍ، وتفكير، وعلم، وقدرةٍ تمكِّنه من الاستفادة من بيئته بطريقة معينة، أو التحلل من سيطرتها.
من هذا المنطلق تركز هذه المدرسة - في مجال العلاقة بين الإنسان وبيئته - على البيئة الطبيعية، وتؤمن أن الإنسان في هذه الحالة مسيرٌ وليس مخيَّرًا، وبالتالي فالتقدم أو التخلف الذي يعرفه مجتمع معين راجعٌ - حسب زعم هذه المدرسة - إلى الظروف البيئية والطبيعية، وهي في الحقيقة دعوة قديمة قِدَمَ الفكر الجغرافي، ومن روادها الأقدمين نذكر كلاًّ من هيبوقراط وأرسطو، اللذين ربطا بين المناخ وطبائع الشعوب، وتفكيرهم وعاداتهم.
فعلى سبيل المثال: وصف أرسطو سكان شمال أوروبا بأنهم شجعان، ويمتازون بالجرأة، إلا أنهم يفتقرون إلى المهارات والخبرات، بينما امتاز الآسيويون بالمهارة والخبرة، إلا أنهم تنقصهم الشجاعة، هذا، بينما امتاز الإغريق بالجرأة والشجاعة من ناحية، والمعرفة الواسعة من ناحية أخرى[6].
وظهر نفس الاتجاه الحتمي الطبيعي في "مقدمة ابن خلدون" في العصور الوسطى، الذي ربط بين المناخ وطبائع الناس؛ فقد وصف مثلاً أهل المناطق الحارة بالخفة، والطيش، والتأخُّر، بينما وصف أهل حوض البحر المتوسط بالجرأة، والشجاعة، والمعرفة. يتبع....................