يقول نيتشه: "إنَّ القضايا الكبرى مثل الحمام البارد، ومن الأفضل الخروج منه بأسرع من دخوله"، وفي موضوعنا المتشابك هذا، الذي أرَّقَ الباحثين والمفكِّرين والسياسيين، الذي يتصل بقضيَّة كبرى، وهي تخلُّف البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، سأحاول قدر المُسْتَطاع بقراءة بانورامية واستعراضية - وبطبيعة الحال لن تحيط بكل شاردة وواردة - أن أدخل بسرعة من خلال الطواف والإطلالة على بعض التصورات التي تحاول إلصاق التخلف بمجتمعاتنا - كطابع بريدي، أو ورقة أثمان يستحيل التصرف فيها - من خلال دراسة الإنسان، ونشاطاته، وعلاقاته بالظروف الجغرافية[1] (وأقصد هنا الطبيعية، والمناخية، والأيكولوجية، والبشرية)، التي تعوق مسيرة الإنسان المتخلف - بطبيعة الحال ماديًّا واقتصاديًّا - ولكنني لا أدري إن كنت سأوفق في الخروج منه بالسرعة نفسها.
وجِسم هذا الموضوع يمكن تشريحه إلى ثلاث مناطق بحثية تالية: 1- المؤشرات والمعايير الدولية للتخلف.
2- المدارس الجغرافية الكبرى وإشكالية التخلف.
3- وجهة نظر: مساهمة أبستمولوجية.
إن معالجة مواضيع من هذا القبيل ليس ضربًا من الترف الفكري، وإنما ينمُّ عن مرارة التأخر في اللحاق بالدول المتقدمة، التي تتسيَّد على العالم من منطلق ترساناتها العسكرية، وتسعى جاهدة إلى فرض هيمنتها على الدول المتأخرة، على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي (العولمة الاقتصادية والثقافية، والتبعية بأنواعها المختلفة).
لا يخلو أي عمل للكتَّاب البورجوازيين الذين تعرَّضوا لقضايا العالم الثالث - مهما كانت قيمته - من بحثِ صفاتِ التخلفِ، وجوهره، وأسبابه، ومقاييسه، وهذا أمر طبيعي جدًّا، فالوضع الراهن لبلدان العالم الثالث لا يحتاج إلى مناقشات عامة؛ بل إلى توجيهات محددة في إعداد برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ لكن معالجة المرض تحتاج قبل كل شيء - في رأي هؤلاء الكتاب البورجوازيين - إلى تشخيص أعراضه؛ ولذا اضطروا إلى بدء بحثهم بالإجابة عن الأسئلة التالية: ما التخلف؟ وبماذا يتحدد؟ وما العوامل الأساسية التي تعوق بلدان العالم الثالث في محاولاتهم القضاء على التخلف - وبخاصة تخلفها الاقتصادي - في أقصر وقت ممكن، وبأقل التكاليف؟[2].
1- المؤشرات والمعايير الدولية للتخلف: التخلف مصطلح مطاطي، ولفظة شائعة الاستخدام، يرتبط مدلولها بنمط العلاقة بينها وبين مستخدمها، فنقول: التخلف الاقتصادي، التخلف الزراعي، التخلف الصناعي، تعليم متخلف، نمط عيش متخلف، ويعني ذلك علاقة النشاطات البشرية المتعلقة بهذه المجالات.
في هذه الآونة الأخيرة، لم يركز المجتمع الدولي، وتقارير التنمية البشرية العربية على مفهوم التخلف، بقدر ما ركز على مقومات ودعائم التنمية، كعمل ماكياج أو ستار خشبة مسرح الدول المتخلفة؛ لطمس معالم التخلف من خلال استنبات واختراع مصطلحات جديدة، لا محل لها من الإعراب: الدول النامية، الدول السائرة في طريق النمو، دول الجنوب، الدول شبه النامية؛ ولكن بالضد تتبين الأشياء كما يقال.
انطلاقًا من هذه المعايير الموضوعة للحكم على تنمية بلدان الجنوب؛ نستخلص مؤشرات التخلف، وما مدى مطابقتها لرغبات وتطلعات الشعوب المتعطشة للخروج من مستنقعها الآسن.
في هذا الإطار، نجد البذرة الأولى في التعاطي مع هذه المؤشرات، وإن كان بمسميات أخرى مع المفكرين الرواقيين والإبيقوريين في العصر الهلنستي، الذين ميزوا بين الحاجات الحقيقية والزائفة، كمعيار للمفاضلة بين الحياة الصالحة والحياة الطالحة، وهو ما يتضح بشكل كبير في تمييز إبيقور بين حاجة ضرورية كالماء، وأخرى غير ضرورية كالرغبة في احتساء عصير جيد، وهو عين ما ارتآه مفكرون تنويريون.
والذين فرَّقوا بين الحاجات الطبيعية والإنسانية، مشيرًا إلى أن الخلل في إشباعها يكمن في الاستعمال السيئ للموارد؛ بسبب تقسيم العمل، وظهور الملكية؛ مما يؤدي إلى استئثار القلة بوسائل الإنتاج، سيما الأرض، ومن ثم التحكم في حاجة الكثرة للإنتاج، كما هو الحال حاليًّا بالنسبة للبلدان التي تسيطر تقريبًا على 58 % من ثروات العالم[3].
* جرد تاريخي لمعايير قياس التقدم والتخلف: - مقياس الدخل الحقيقي للسكان: منذ خمسين عامًا، كان المؤشر الذي حظي بأكبر قدر من الاتفاق بين الاقتصاديين لقياس التقدم والتخلف - هو مؤشرَ متوسط الدخل؛ أي: حجم الدخل الحقيقي المتاح للفرد الواحد من السكان، والمقصود بوصف "الحقيقي": الإشارة إلى السلع والخدمات، وليس إلى قيمتها النقدية التي قد تتقلب من وقت لآخر، دون أن يعكس هذا التقلب بالضرورة تقدمًا أو تخلفًا.
- مقياس إشباع الحاجات الأساسية: في أوائل السبعينيات ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين، يسلِّط الضوءَ على شيء آخر غير متوسط الدخل، وهو ما سمي بإشباع الحاجات الأساسية، واعتَبر أصحاب هذا الاتجاه أن هذا المعيار أفضل بكثير من معيار متوسط الدخل كمقياس للتقدم والتخلف؛ للحكم على مدى نجاح أو فشل التنمية؛ وذلك لسببين:
الأول: أن الحاجاتِ الإنسانيةَ ليست متساوية في الأهمية، وزيادة الدخل قد تستخدم لإشباع هذه الحاجة أو تلك، ومن ثم فالانشغال بزيادة الدخل قد يعني الانشغالَ بإشباع حاجات قليلة الأهمية - كمطالب القلة المترفة مثلاً - على حساب حاجات أكثر أهمية؛ كتوفير الغذاء الضروري، أو الملبس، أو المسكن الملائمين.