الأنا والنحن في المجتمعات
الفرد كفرد لا يكون مجتمعاً، ذلك أن المجتمع وفي أبسط صوره وتركيبه، إنما تتكون نواته باثنين فأكثر، ومن ذات النوع.
والإنسان كفرد لا يوجد ذاته من ذاته بالإنشطار، وإنما هو حصيلة عملية بيولوجية نتجت من اجتماع اثنين: ذكر وأنثى، رجل وامرأة، أب وأم، فهو وبهذا المفهوم ثمرة اجتماعية; وهو، بعد أن ولد، في حاجة أكيدة لكي يبقى حياً إلى الغذاء والدفء والرعاية، وهذا مستحيل بغير الأم، أو من يقوم مقام الأم، لسد هذه الحاجات.
وهذه هي أولى ضرورات الحياة، وهي ضرورات تتكاثر وتتنوع بتقدم سنه، وتتداخل وتتشابك فتلتحم وتتصادم مع ضرورات الآخرين.
من هنا يمكننا القول بأن الإنسان لا يحيا فطرة إلا بالجماعة في الجماعة ومع الجماعة.
ذلك أنه كفرد إنما يرتبط في وجوده واستمراريته، مع غيره، بروابط أساسية هي وفي حد ذاتها سبب حياته، وهي ضرورات ودوافع كونها أو تكونت مع نشأة مجتمعه الأول، أي منذ أن بدأ وجوده فوق هذه الأرض كإنسان; ثم انها ومنذ عصور ما قبل التاريخ صاحبته، وهي لا تزال تصحبه، وتتطور مع تطوره شكلاً، ولكنها من حيث الجوهر، تبقى هي كما بقى هو، على ذات ما تكون وتكونت معه عليه.
هذا من جانب، ومن آخر: فإن الضرورة البيولوجية ذاتها تدفع بالفرد نحو نزعة فردية ليستقل بذاته، فيصبح بدوره أصلاً من اثنين في عملية بيولوجية تالية، تعطي حصيلة أي ثمرة جديدة من ذات النوع.
وحاجة الحياة لدى الفرد الى المأكل والمشرب والسكن تدفعه الى السعي لتوفيرها، ولأنها حاجات لا يغني فيها توفرها لسواه، فشبع الأم أو الأب أو الأخ أو الزوج وريه لا يسكت جوعه ولا يروي ظمأه، واندفاعه هذا بدوره ينمي في داخله ذات النزعة الفردية، فيجنح إلى الإنفصال عن المجتمع الذي هو في حاجة إليه.
والمجتمع الإنساني كغيره يتكاثر بالتزاوج والتوالد، وبالتالي فهو ينمو باستمرار، وتكاثره هذا يزيد من حاجاته الضرورية من المشرب والمأكل والكساء، وهذه إنما تقدمها له البيئة والأرض، حتى إذا عجزت هذه وقصرت إمكانياتها، اضطر البعض إلى النزوح والهجرة والتخلي عن تلك البيئة إلى غيرها طلباً لذات الحاجات، فيحدث بهذا الإنقسام وتتعدد المجتمعات، وبتباعدها مكاناً وزماناً تفقد الصلات الأولى التي كانت جامعة لها في كل واحد أي أصل مشترك.
حاجة الفرد الى الجماعة وحاجته الى الإنفصال عنها وفي ذات الآن، هما القوتان الذاتيتان في الإنسان، وهما اللتان تعبر الفلسفة عنهما بالـ (أنا) وبالـ (نحن)، وهما قوتا الطرد والجذب في توازنية الإنسان، وفي جاذبية الجماعة التي يحس بها كل فرد نحو المجموعة، وعليهما معاً يدور محور الحياة الإنسانية في هذا الوجود.
وقد شعرت المجتمعات البشرية، ومنذ بدأ تكونها، بضرورة تجسيد تلك الروابط الجاذبة للجزء نحو كله، أي الفرد نحو مجموعته، لتوازن في مشاعره حاجات ذاته، فكانت الانتماءات العرقية، واللغوية، والوطنية، والعقائيدية الدينية، والمصلحة المشتركة، وما إليها، هي ما تمخضت عنه تجربة الإنسانية كركائز دارت حولها وتدور نحنوية الفرد الجاذبة في توازنها مع الأنانية فيه. واستقرار وسعادة المجتمع - أي مجتمع - مستحيلان إلا بتعادلهما في ذات الفرد، ومن ثم في المجتمع ككل.
منقول للافادة